بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلوات ربي وسلامه عليه ، وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . . وبعد :
لما خلق الله الخلق لم يتركهم هملاً ، بل أرسل إليهم الرسل ، وأنزل لهم الكتب ، وبين لهم طريقي الخير والشر ، طريقي الجنة والنار ، قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان 2-3 ] .
وقال تعالى : { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد 7-10 ] .
والنجدان : هما الطريقان ، أي طريق الخير والشر ، فالله عز وجل وهب الإنسان العقل ، وميزه عن البهائم به ، فإن استعمله فيما يرضي ربه كان من أهل الخير ، وكان في منزلة الملائكة ، لأن العقل يحجز صاحبه عن المعاصي ، وإن ترك عقله ولم يستخدمه في الطاعة وصل إلى منزلة البهائم ، بل أسفل من ذلك ، قال تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان44 ] .
ويا لها من خسارة فادحة أن يبقى الإنسان مدى عمره عاصياً لربه عز وجل ، مع أن بيده أن يطيع ربه عز وجل ، لكنه الهوى والشيطان ، الذي توعد ابن آدم بالغواية ، ومع أننا نقرأ كتاب ربنا تبارك وتعالى ، ونسمع آياته تتلى علينا ، ونسمع الآيات التي يتوعد فيها الشيطان بغواية ابن آدم ، قال الله تعالى : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر39 ] .
وقال سبحانه : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص82 ] .
وقال عز من قائل سبحانه : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } [ النساء 117- 119 ] .
إلا أننا نجد أن الكثرة الكاثرة من الناس يسعون إلى الغواية ، ويتبعون خطوات الشيطان ، والله حذرهم من ذلك فقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ النور21 ] ، وياليتنا نتأمل مثل هذه الآيات العظيمة ، لندرك خطورة اتباع خطوات الشيطان ، فالشيطان يزين للعبد المعصية الصغيرة ، حتى يستمرءها ، ومن ثم تهون في قلبه المعصية الكبرى ، فيُطبع على قلبه والعياذ بالله ، وأمثلة ذلك كثيرة ، فكل معصية يقترفها العبد فهي منه ومن الشيطان ، والله بريء منها ، لأنه بين له في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، طريق الهدى والرشاد ، قال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف28 ] .
ولندخل في صلب موضوعنا وهو الجنة والسنتمترات .
لما منَّ الله على عباده باللباس جعله الله ستراً لهم ولعوراتهم ، قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ الأعراف26 ] .
فاللباس نعمة من نعم الله على عباده ، يستر عوراتهم ، ويجمل هيئاتهم ، ولا تصح صلاتهم إلا باللباس ، ومن صلى عرياناً بغير عذر فصلاته غير صحيحة ، ولكن وللأسف الشديد أن كثيراً من الناس استغلوا نعمة الله في معصيته ، وتعالوا بنا نبين ذلك الأمر ، ونعرف أن الجنة ربما حُرِمُوها من أجل سنتمترات ارتكبوها .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ " [ رواه البخاري ] .
وعَنْ أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " أِزْرَةُ الْمُسْلِمِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ ، وَلاَ حَرَجَ أَوْ لاَ جُنَاحَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ ، فَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ ، مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ " [ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الألباني ] .
ولو قست المسافة بين الكعب إلى الأرض لوجدتها خمسة سنتمترات تقريباً ، وهذه الخمسة سبب لدخول النار ، أفلا يعقل الرجال ذلك ؟
لو رفعت ثوبك خمسة سنتمترات أو أقل ، لنجوت من النار بإذن الله تعالى ، أتبيع جنة عرضها السموات والأرض بشهوة تطويل ثوبك سنتمترات ؟
يا لها من خسارة فادحة ، وفي الدين قادحة أن تفعل ذلك ، يا أخي لو قيل لك : إن تبرعت بأرضك أو بيتك أو قصرك الذي كلفك الملايين ، أو مئات الآلاف مقابل أن تدخل الجنة ، وتنجو من النار ، لسارعت إلى ذلك ، ولو اضطررت إلى السلف والاستدانة ، فكيف لا تشتري الجنة بسنتمترات ، ترفع بها ثوبك عن الأرض والقاذورات ، أما علمت أن رفعك لثوبك أتقى لربك ، وأنقى لثوبك .
عَنِ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ ، فَهْوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " [ رواه البخاري ] .
فكل إنسان حجيج نفسه يوم القيامة ، فما أنت قائل لله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية ؟ ما أنت مجيب على هذا السؤال الذي يقول الله فيه : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص65 ] .
فما أنت مجيب على هذا السؤال يوم القيامة ؟
ألم يأمرك النبي صلى الله عليه وسلم بتقصير ثوبك ليكون فوق كعبك ، لتنجو من النار ؟ لماذا لم تأتمر بأمره وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ؟
أتقول لله عز وجل : نعم سمعت ولكني عصيت ، أم تقول : لم يبلغنا رسولك شيئاً ؟
وتدبر هذه الآية التي يقول الله فيها : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }